.png)
المستشار أمجد علي الخضر
استمزاج رأي المحكم قبل تكليفه: بين المهنية والمسؤولية
في عالم التحكيم، حيث يُبنى الحكم على قاعدة الحياد والاستقلال، تبرز مرحلة "استمزاج رأي المحكم" كإجراء تمهيدي بالغ الأهمية، لكنه غالبًا ما يتم في الظل دون ضوابط واضحة. فالاستمزاج هو الخطوة التي تسبق التعيين الرسمي للمحكم، ويُقصد به استئناس رأيه بشأن رغبته وقدرته على تولي مهمة التحكيم، دون أن يشكّل ذلك قبولًا قانونيًا أو التزامًا نهائيًا.
ولأن هذه المرحلة تقف على خط رفيع بين المهنية والاحتيال الإجرائي، فإن تحليلها بعمق، ووضعها في إطار قانوني وأخلاقي صارم، يعد ضرورة ملحة لضمان نزاهة العملية التحكيمية منذ لحظاتها الأولى.
الغاية من استمزاج رأي المحكم
لا يُجري الطرف المعيّن هذا التواصل المبدئي بدافع المجاملة أو البروتوكول، بل يُعد الاستمزاج أداة عملية للتحقق من عدة جوانب:
* هل المحكم متفرغ؟
* هل يتمتع بالاستقلال؟
* هل يقبل المهمة؟
* هل هناك ما يمنعه من المشاركة؟
هذه الأسئلة لا يجوز طرحها بعد التعيين، ومن هنا تنبع أهمية هذا الإجراء. إضافة إلى ذلك، يُسهم الاستمزاج في تقليل فرص الفشل في تشكيل الهيئة، ويمنح ثقة للطرف المعيّن بأنه يسير في الاتجاه الصحيح.
وسائل الاستمزاج المسموح بها
تتعدد الوسائل المشروعة للتواصل المبدئي مع المحكم:
* اتصال هاتفي محترم.
* بريد إلكتروني تمهيدي.
* زيارة شخصية موجزة.
* خطاب خطي عبر جهة محايدة.
* تواصل بواسطة سكرتير مركز التحكيم – إن وجد.
غير أن اختيار الوسيلة لا يقل أهمية عن مضمونها. فكل تواصل يجب أن يكون:
قصيرًا – محايدًا – لا يتضمن أي إفشاء – ولا أي تأثير.
الضوابط الأخلاقية للتواصل
إن الطرف الذي يستمزج المحكم عليه أن يلتزم بأعلى درجات الشفافية، دون ضغط أو تلميح. يجب أن يوضح للمحكم:
* أن الأمر لا يتجاوز سؤالًا تمهيديًا.
* أن القرار النهائي يبقى له.
* أن التفاصيل التي سيُفصح عنها ستكون عامة ولا تمس جوهر النزاع.
كما يجب الامتناع عن تقديم أية منافع، أو استعمال لهجة توحي بالاصطفاف، أو اعتبار قبول المحكم ضمانًا للنتيجة.
ما يُقال وما لا يُقال
من المشروع أن يعرف المحكم:
* أسماء الأطراف.
* نوع النزاع بشكل عام.
* موقع التحكيم واللغة.
* الجهة المُعيّنة.
* القانون المرجعي.
أما ما يجب تجنّبه:
* تفاصيل النزاع الجوهرية.
* نقاط الضعف في الطرف الآخر.
* طبيعة الأدلة.
* مواقف الأطراف.
* أي تصور مسبق للنتيجة.
واجبات المحكم أثناء الاستمزاج
المحكم الذي يُستمزج رأيه يجب أن يتعامل بمسؤولية كبيرة:
* أن يسأل عن تضارب المصالح المحتمل.
* أن يطلب مهلة للتفكير إذا لزم.
* أن يمتنع عن إبداء الرأي القانوني.
* أن يرفض إن شعر بأي ضغط أو ريبة.
* أن يكون حياديًا حتى في صيغة الرد.
الرد المهني هو الذي يكون موجزًا، واضحًا، خاليًا من التعهدات، ويحتفظ للمحكم بحقه في القبول أو الاعتذار لاحقًا.
التوقيت المثالي للاستمزاج
التوقيت المثالي يكون:
* بعد نشوء النزاع.
* بعد اختيار الطرف لمرشحه.
* قبل التواصل مع الطرف الآخر.
* قبل بدء تشكيل الهيئة رسميًا.
أما التواصل المتأخر أو الموازي للإجراءات القضائية أو الإدارية، فيُفقد الاستمزاج معناه ويجعله عرضة للاتهام بالتحايل.
الفرق بين الاستمزاج والتكليف
الاستمزاج: إجراء تمهيدي، غير موثق، لا يُنشئ التزامًا.
التكليف: إجراء قانوني، يُبلغ به الأطراف، ويبدأ معه التزام المحكم.
الخلط بين المرحلتين هو بوابة للفوضى القانونية، وقد يؤدي إلى إبطال الهيئة لاحقًا.
الانحراف في الاستمزاج (الاستمزاج الموجّه)
يحدث الانحراف حين يُستخدم الاستمزاج لأغراض غير نزيهة، مثل:
* اختبار مواقف المحكم مسبقًا.
* إيهامه بجانب من النزاع.
* استغلال اسمه في الضغط على الطرف الآخر.
* التواصل المتكرر والمريب.
كل هذه الممارسات تفتح بابًا للطعن، وتُسيء لسمعة الأطراف والمحكمين والمراكز معًا.
النتائج القانونية للاستمزاج غير السليم
* تقديم طلب رد المحكم.
* بطلان تشكيل الهيئة.
* الطعن في حياد المحكم.
* فقدان الثقة في حكم التحكيم.
* انعدام إمكانية تنفيذ الحكم دوليًا.
* إحالة النزاع إلى القضاء مجددًا.
إن خطأ بسيط في الاستمزاج قد يُفقد العملية التحكيمية شرعيتها كلها.
نحو تقنين وتنظيم الاستمزاج
من أجل تجنب هذه المخاطر، يُقترح:
* إصدار قواعد سلوك مهنية من مراكز التحكيم.
* وضع نماذج رسمية للاستمزاج.
* إلزام المحكم بالإفصاح عن كل تواصل سابق.
* تجريم التأثير على المحكم خلال هذه المرحلة.
* تدريب الأطراف على ممارسة التواصل المهني.
استمزاج رأي المحكم قبل تكليفه ليس ترفًا إجرائيًا، بل ممارسة مهنية دقيقة تُشكل حجر الأساس في بناء هيئة تحكيم محايدة، مستقلة، وفاعلة.
وما لم يتم احترام هذه المرحلة بضوابط أخلاقية وقانونية واضحة، فإن بابًا واسعًا من الشك، والطعون، والارتباك سيظل مفتوحًا، يهدد جوهر التحكيم كوسيلة فعالة وعادلة لحسم النزاعات.
المستشار_أمجد_علي_الخضر