.png)
دار الوساطة والتحكيم الفلسطينية
الإجراءات المتوازنة في التحكيم – من العدالة الشكلية إلى الإنصاف العملي
العدل ليس في التساوي، بل في التناسب
التحكيم ليس مسرحًا للتماثل الجاف، بل ساحة توازن حيّ، تعترف باختلاف مواقف الأطراف، وتُطالب المحكم لا بأن يُعاملهم بنفس الطريقة دائمًا، بل بأن يمنح كل طرف ما يُحقّق له تكافؤًا وظيفيًا في الدفاع عن مصالحه.وهنا، لا يكفي للمحكم أن يُوزّع الوقت بالتساوي، بل عليه أن يُدير السياق بإنصاف.
لا يكفي أن يسمح لكل طرف بالكلام، بل يجب أن يضمن الفاعلية المتساوية للفرصة، وهذا هو جوهر ما يُسمى بـ: "الإجراءات المتوازنة".
أولًا: المفهوم الإجرائي للتوازن – تكافؤ لا تماثل
يُعرّف التوازن الإجرائي بأنه:
"مجموعة من التدابير التي يتخذها المحكم لضمان ألا يؤدي اختلاف القوة القانونية أو التقنية أو المالية بين الأطراف إلى تفوّق أحدهم ظلماً داخل العملية التحكيمية."
ويتحقق هذا التوازن عبر:
-
إتاحة الوقت الكافي وفق طبيعة الدفاع، لا بالتقسيم العددي.
-
ضمان أن كل طرف فهم الإجراء، وامتلك أدوات التعامل معه.
-
معالجة الطوارئ الخاصة لأي طرف (مرض – تأخر الترجمة – ضعف تقني...).
-
ثانيًا: الأساس القانوني لواجب التوازن
-
المادة من قانون التحكيم الفلسطيني:
"على هيئة التحكيم أن تُعامل الأطراف على قدم المساواة، وتُهيئ لكلٍ منهم فرصة كاملة لعرض دعواه ودفاعه."
-
المادة من قانون التحكيم المصري
"تُراعي هيئة التحكيم مبدأ المواجهة وتكافؤ الوسائل."
-
Rule 17 من قواعد الأونسيترال 2021:
"The arbitral tribunal shall ensure that the parties are treated with equality and that each party is given a reasonable opportunity to present its case."
ثالثًا: المظاهر التطبيقية لغياب التوازن
-
اختصار جلسات أحد الأطراف بذريعة "التكرار"، دون مسوغ.
-
رفض تمديد مهل المرافعة لطرف يواجه ظروفًا استثنائية.
-
إجبار طرف على الترافع بلغة لا يُتقنها دون توفير ترجمة.
-
تجاهل طلبات الوصول إلى مستندات أساسية للخصومة.
في هذه الحالات، حتى لو بدا الشكل محترمًا، فإن الجوهر مائل.
وتُعرض الهيئة لخطر بطلان الحكم لاحقًا، كما حدث في حكم محكمة النقض المصرية الطعن رقم 1322 لسنة 75 ق، حيث اعتُبر "الإخلال بحق الدفاع في التحكيم كالإخلال به أمام القضاء – موجب للبطلان".
-
خطة إجرائية مسبقة تتضمن جدولًا مرنًا للجلسات.
-
بروتوكول اتصال موحّد يضمن عدم تمييز أحد الطرفين في التواصل.
-
إجراءات تصحيحية عند ظهور خلل (مثل منح الطرف المتأثر وقتًا إضافيًا).
-
لغة قانونية محايدة في المراسلات، لا توحي بتفضيل طرف.
مثال على صياغة توازنية:
"حرصًا على تكافؤ المواقف الإجرائية، تُقرر الهيئة تمديد المهلة للطرف الثاني لإعداد ردّه الكامل، بما لا يخلّ بمدة التحكيم الإجمالية."
خامسًا: الفرق بين الإنصاف والمحاباة
يخلط بعض المحكمين – خاصة المبتدئين – بين إنصاف الطرف الأضعف ومجاملة غير المبرر.
وهنا يجب استحضار مبدأ:
"الإنصاف ليس تقديم العون، بل منع الظلم."
فلا يجوز للمحكم:
-
أن يُكمّل مرافعة طرف بنص منه.
-
أن يُوجّه طرفًا للإجابة "الصحيحة".
-
أن يُوبّخ أحد الأطراف لأدائه دون سبب قانوني.
-
سادسًا: بناء بيئة إجرائية متوازنة – توصيات مؤسساتية
للمراكز التحكيمية أن تعتمد:
-
ميثاق إجراءات تكافؤية يُسلّم للأطراف منذ البداية.
-
نماذج جلسات تضمن توزيعًا عادلًا للمداخلات والطلبات.
-
سجلات تدقيق للقرارات الإجرائية التي تمس حقوق أحد الطرفين.
وللمحكم أن يُدرّب نفسه على:
-
الإنصات النشط لمظالم الطرفين.
-
قراءة السياق النفسي للنزاع لا فقط أوراقه.
-
ضبط تفاعله بحيث لا يُشعِر طرفًا بالعجز.
-
سابعًا: مصطلحات رئيسية للتوازن الإجرائي
-
-
الإجرائي: Procedural Equality
-
المساواة الفعّالة: Effective Equality
-
الفرصة المتكافئة: Equal Opportunity
-
التوازن الديناميكي: Dynamic Balance
-
الميل الإجرائي الخفي: Subtle Procedural Biasثامنًا: الكاتب كـ مؤسس للعدالة الوظيفية لا الصورية
ينطلق هذا المقال من رؤية مفادها أن التوازن الإجرائي ليس مكافأة، بل شرط وجودي لشرعية العملية التحكيمية.
الكاتب هنا لا يقدّم توصيات فقط، بل يزرع ثقافة جديدة ترى أن الإنصاف لا يُقاس بعدد الصفحات أو مدة الجلسة، بل بحجم التمكين الفعلي لكل طرف ليُعبّر عن نفسه ويُدافع عن قضيته.خاتمة تمهيدية للمقال الرابع – السلطة التقديرية للمحكم: فن اتخاذ القرار داخل الحياد
الحياد، والتوازن، لا يمنعان المحكم من ممارسة سلطته، بل يُلزمانه بممارستها وفق ضوابط أخلاقية وواقعية.
في المقال القادم، سنغوص في عمق السلطة التقديرية: كيف تُستخدم؟ ومتى يُعد استخدامها انزلاقًا لا خيارًا؟ وما الفرق بين التقدير المشروع والانحراف المُغلّف بالإجراءات؟
تابع معي... فالقرار ليس قوة فحسب، بل مسؤولية تفسيرية.