
دار الوساطة والتحكيم الفلسطينية
السلطة التقديرية للمحكم – من الحق الإجرائي إلى المسؤولية التفسيرية
مقدمة: حين يصبح القرار محكًّا للأخلاق المهنية
في التحكيم، يتمتع المحكّم بسلطات واسعة، قد تفوق في مداها ما يُمنح لقاضٍ نظامي، ولكن كلما اتسعت الدائرة، ازداد خطر الانزلاق.
فالسلطة التقديرية ليست امتيازًا مطلقًا، بل أمانة تفسيرية تُحاسَب لا تُطلَق، ومتى ما غابت ضوابطها، تحوّلت إلى بابٍ من أبواب الإخلال بالعدالة الإجرائية، ولو تحت غطاء من النصوص.
أولًا: مفهوم السلطة التقديرية – تفريقًا لا خلطًا
السلطة التقديرية هي:
"الحيّز الذي يمنحه القانون للمحكم ليُقرّر في إجراء أو مسألة بناءً على اجتهاده، ضمن حدود القواعد والظروف القائمة، لا وفق قاعدة قطعية ملزمة."
لكنها تختلف عن:
-
السلطة التعسفية: حيث يُتخذ القرار دون مبرر أو تعليل.
-
السلطة الإلزامية: حيث يكون المحكم مقيدًا بنص أو اتفاق الأطراف.
المبدأ المحوري:
"كل سلطة تقديرية لا تكون مُعلّلة، تُعد موضع مساءلة مهنية وقانونية."
ثانيًا: الإطار القانوني للسلطة التقديرية في التحكيم
-
من قانون التحكيم الفلسطيني لسنة 2000:
"للهيئة أن تُقدّر طريقة السير في الإجراءات ما لم يتفق الطرفان على غير ذلك."
-
من قانون التحكيم المصري لسنة 1994:
"تختص هيئة التحكيم بالفصل في المسائل الإجرائية وفق ما تراه محققًا للعدالة."
-
من قواعد الأونسيترال 2021:
تُعطيان الهيئة صلاحيات في تحديد وسائل الإثبات وتنظيم الجلسات مع ضمان الحقوق الإجرائية. -
لائحة مركز دبي للتحكيم الدولي (DIAC Rules 2022):
تؤكد على سلطة الهيئة في اتخاذ أي إجراء إجرائي تراه مناسبًا للموازنة بين الكفاءة والعدالة
ثالثًا: ميادين السلطة التقديرية – أين يُمارس القرار؟
-
تمديد المهل الإجرائية:
متى يُقبل؟ ومتى يُرفض؟ ما هو معيار "الظرف الطارئ"؟ -
قبول الأدلة المتأخرة:
هل يُسمح بإدخال مستند جديد بعد الجلسات؟ وهل للطرف الآخر مهلة للرد؟ -
تحديد لغة التحكيم:
ما العمل إذا اختلفت الأطراف؟ وهل تؤخذ قدرة الطرف على الفهم بعين الاعتبار؟ -
ترتيب الجلسات والدفوع:
هل تُجزّأ المرافعات؟ هل تُضمّن مرحلة تفاوض؟ هل يُسمح بالمداخلة؟ -
إصدار أوامر إجرائية خاصة (Procedural Orders):
هل يمكن للمحكم إلزام أحد الأطراف بتقديم دليل؟ أو ضبط الحضور الزمني دون اتفاق مسبق؟ -
رابعًا: حالات الانزلاق – حين تخرج السلطة عن غايتها
-
إغفال طلب جوهري لأحد الأطراف دون تعليل.
-
إصدار قرار مفاجئ دون استدعاء أو مرافعة.
-
تجاوز ما اتفق عليه الأطراف بشأن الإجراءات.
-
رفض الاستماع لشاهد أساسي بحجة "عدم الأهمية" دون مبرر.
وقد اعتبرت محكمة التمييز الفرنسية في قضية Société G. أن:
"إخلال المحكمين بواجب التسبيب في قراراتهم الإجرائية يُعد مساسًا بحق الدفاع يُوجب البطلان."
خامسًا: المعايير الأخلاقية قبل ممارسة التقدير
قبل أن يُصدر المحكم قرارًا ضمن صلاحياته التقديرية، عليه أن يراجع “الأسئلة الخمسة الذهبية”:
-
وجاهة التوقيت: هل القرار يأتي في وقت مناسب للمرافعة أو يربكها؟
-
احترام التكافؤ: هل أتيح للطرف الآخر رد فعله؟
-
التناسب: هل القرار متناسب مع أهمية المسألة؟
-
خلو المصلحة: هل المحكم بعيد عن أي أثر مصلحي مباشر أو غير مباشر؟
-
أثر الإجراء: هل يفتح القرار بابًا لاستئثار أو حرمان؟
-
التسبيب الإجرائي: هل كتبت الأسباب بوضوح؟ وهل يمكن تتبعها منطقيًا؟
سادسًا: المصطلحات الفنية المرتبطة بالتقدير
-
الهامش التفسيري: The Interpretive Margin
-
الاختيار المُلزِم: Binding Discretion
-
انزلاق التقدير: Discretionary Misconduct
-
سطوة الإجراء: Procedural Coercion
-
حسّ المآلات: Outcome Foresight
-
تكييف الوقائع: Contextual Legal Framing
-
-
سابعًا: الكاتب كصوت توازن وتحكيم مسؤول