د - سلمى سليمان
مفهوم النظام العام في الضفة الغربية:
تحليل في ضوء قانون التحكيم، مجلة الأحكام العدلية، والقانون الأساسي
يُعدّ مفهوم النظام العام حجر الزاوية في أي نظام قانوني، فهو يمثل مجموعة المبادئ والأسس الجوهرية التي لا يجوز للأفراد الاتفاق على مخالفتها، كونه يحمي كيان المجتمع واستقراره. وفي سياق الضفة الغربية، يكتسب هذا المفهوم أهمية بالغة نظرًا لتعدد مصادر التشريع وتأثير الظروف السياسية. سنناقش في هذا المقال مفهوم النظام العام بالتركيز على المواد ذات الصلة من قانون التحكيم الفلسطيني ولائحته التنفيذية، مجلة الأحكام العدلية، والقانون الأساسي الفلسطيني.
1. الإطار العام لمفهوم النظام العام:
لا يوجد تعريف جامع مانع للنظام العام في التشريعات الفلسطينية بالضفة الغربية. ومع ذلك، يمكن استخلاص جوهره من الفقه والقضاء، ومن خلال التطبيقات التشريعية التي تمنع الأفراد من التصرفات التي تضر بالمصلحة العامة. يُعرف النظام العام عمومًا بأنه القواعد والضوابط التي تهدف إلى تحقيق المصلحة العليا للمجتمع والدولة، والتي تتعلق بالسيادة، والأمن، والاقتصاد، والصحة العامة، والآداب والأخلاق السائدة. هو بذلك صمام أمان يحمي القيم الأساسية للمجتمع ويمنع الفوضى أو الإضرار بالكيان العام. هذا المفهوم يتسم بالمرونة والتطور، ويتأثر بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
2. تجليات النظام العام في التشريع المطبق بالضفة الغربية:
تظهر تجليات النظام العام في العديد من القوانين السارية في الضفة الغربية، والتي تهدف إلى حماية المصالح الأساسية للمجتمع.
أ. في القانون المدني (قانون المعاملات المدنية):
على الرغم من أن قانون المعاملات المدنية الجديد لم يدخل حيز التنفيذ بعد في الضفة الغربية (حيث لا يزال معمولاً بمبادئ القانون المدني المصري وبعض أحكام مجلة الأحكام العدلية والقوانين الأردنية السابقة)، إلا أن المبادئ العامة للقانون المدني تتفق على أن العقود التي يكون محلها أو سببها مخالفًا للنظام العام أو الآداب العامة تكون باطلة بطلانًا مطلقًا. هذا المبدأ مستقر فقهًا وقضاءً ويعتبر من القواعد الآمرة التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها.
ب. في القانون الجنائي:
تعتبر الجرائم التي تهدد الأمن والاستقرار الاجتماعي من أبرز صور مخالفة النظام العام. وتهدف النصوص العقابية في قانون العقوبات رقم 16 لسنة 1960 (المطبق في الضفة الغربية) إلى حماية المجتمع من الأفعال التي تخل بالنظام العام، مثل الجرائم ضد أمن الدولة، والجرائم المخلة بالآداب العامة، وجرائم الاعتداء على الأشخاص والممتلكات. وتفرض هذه القوانين عقوبات على مرتكبي هذه الأفعال بهدف ردعهم وحماية المجتمع.
3. النظام العام في قانون التحكيم الفلسطيني واللائحة التنفيذية:
تبرز أهمية مفهوم النظام العام بشكل جلي في قانون التحكيم الفلسطيني (الصادر في رام الله)، حيث يُعتبر قيدًا أساسيًا على مبدأ حرية الإرادة في اللجوء إلى التحكيم.
المادة (4) من قانون التحكيم الفلسطيني: هذه المادة هي الأكثر وضوحًا في الإشارة إلى النظام العام كحدٍ أقصى للتحكيم. فبينما تنص المادة (2) على نطاق سريان القانون ليشمل "كل تحكيم بين أشخاص طبيعيين أو اعتباريين يتمتعون بالأهلية القانونية للتصرف بالحقوق أياً كانت طبيعة العلاقة القانونية التي يدور حولها النزاع، مع مراعاة الاتفاقيات الدولية التي تكون فلسطين طرفاً فيها."، فإن المادة (4) تستثني صراحةً: "1- المسائل المتعلقة بالنظام العام في فلسطين." هذا الاستثناء يؤكد أن التحكيم، كآلية بديلة لفض النزاعات مبنية على إرادة الأطراف، لا يمكن أن يمتد ليشمل المسائل التي تمس جوهر استقرار المجتمع أو القيم الأساسية التي يقوم عليها. الغاية من هذا الاستثناء هي حماية المصالح العامة للدولة والمجتمع، والتي لا يجوز للأفراد التنازل عنها أو التصالح بشأنها من خلال التحكيم.
المادة (2) من اللائحة التنفيذية لقانون التحكيم الفلسطيني: هذه المادة تأتي لتوضيح وتحديد بعض الجوانب التي تندرج تحت مفهوم "المسائل المتعلقة بالنظام العام" أو "المسائل التي لا يجوز فيها الصلح قانونًا". تنص اللائحة على: "لا يجوز التحكيم في المسائل التي تتعلق بالنظام العام والمسائل التي لا يجوز فيها الصلح قانونا كالعقوبات والمنازعات المتعلقة بالجنسية، وكل ما هو متعلق بالأحوال الشخصية كالطلاق والنسب والإرث والنفقة، على أنه يجوز أن يكون موضوعا للتحكيم تقديرا لنفقة واجبة أو تقديرا لمهر أو أية دعوى مالية أخرى ناشئة عن قضايا الأحوال الشخصية."
العقوبات: تُعتبر الجرائم والعقوبات من صميم النظام العام الجنائي. لا يجوز للأفراد التصالح في القضايا الجنائية أو اللجوء فيها إلى التحكيم، لأنها تتعلق بحق المجتمع في معاقبة الجناة وحفظ الأمن العام.
الجنسية: هي مسألة سيادية تتعلق بانتماء الفرد للدولة، وهي من اختصاص السلطة العامة ولا يجوز التحكيم فيها.
الأحوال الشخصية: تعتبر معظم مسائل الأحوال الشخصية (كالطلاق، النسب، الإرث) من النظام العام الاجتماعي والأخلاقي، لارتباطها بالبنية الأسرية والقيم الدينية والاجتماعية. لا يجوز للأفراد التحكيم في إنشاء هذه الروابط أو إنهائها، ولكن اللائحة تضمنت استثناءً مهمًا، وهو جواز التحكيم في "تقديرا لنفقة واجبة أو تقديرا لمهر أو أية دعوى مالية أخرى ناشئة عن قضايا الأحوال الشخصية". هذا التمييز يوضح أن الجوانب المالية المترتبة على مسائل الأحوال الشخصية يمكن أن تكون محل تحكيم، بينما لا يمكن التحكيم في جوهر العلاقة أو الوضع القانوني نفسه.
تُشكل هذه المواد قيدًا أساسيًا على مبدأ سلطان الإرادة، مؤكدةً على أن بعض المصالح لا يمكن أن تكون محل تفاوض أو تحكيم فردي، بل يجب أن تبقى تحت مظلة القضاء العام لحماية المصلحة المجتمعية الأوسع.
4. التحكيم في القضايا العقارية وعلاقته بالنظام العام:
تطرح العلاقة بين التحكيم والمسائل العقارية تساؤلات حول ما إذا كانت هذه القضايا تندرج ضمن النظام العام، لا سيما مع الأهمية الاقتصادية والاجتماعية للعقارات. ومع ذلك، لا يوجد في قانون التحكيم الفلسطيني أو لائحته التنفيذية ما يشير صراحةً إلى منع التحكيم في القضايا العقارية بشكل مطلق.
إن الأصل في التحكيم هو جوازه في كافة النزاعات التي يجوز فيها الصلح ولا تتعلق بالنظام العام، كما أكدت المادة (2) من قانون التحكيم. القضايا العقارية، مثل نزاعات الملكية، الإيجارات، الشفعة، الرهن، العقود العقارية كبيع وشراء العقارات، هي عادةً ما تدور حول حقوق مالية وتعاقدية يجوز للأطراف التصرف فيها وإجراء الصلح بشأنها. وبالتالي، فإنها لا تندرج ضمن "المسائل المتعلقة بالنظام العام" أو "المسائل التي لا يجوز فيها الصلح قانونًا" بالمعنى الوارد في المادة (4) من قانون التحكيم والمادة (2) من لائحته التنفيذية.
ومع ذلك، ينبغي التمييز بين:
النزاعات العقارية التي يجوز فيها التحكيم: وهي غالبًا النزاعات ذات الطبيعة المالية أو التعاقدية البحتة، مثل الخلافات حول تنفيذ عقد بيع عقار، تقدير قيمة إيجار، أو تعويض عن أضرار لحقت بعقار.
المسائل التي لا يجوز فيها التحكيم بشكل مباشر: وهي الإجراءات الإدارية والقانونية التي تتعلق بتكوين الملكية أو تثبيتها في السجلات الرسمية (مثل دائرة الأراضي - الطابو). فالتحكيم لا يملك صلاحية إنشاء حق ملكية أو تسجيله مباشرةً، وإنما يمكن لحكم التحكيم أن يلزم أحد الأطراف باتخاذ الإجراءات اللازمة للتسجيل أو دفع تعويض في حال عدم التنفيذ. إن اختصاصات المحاكم العقارية الخاصة (كمحكمة تسوية الأراضي والمياه) في تثبيت وتحديد الملكية لأول مرة تظل من اختصاص القضاء النظامي ولا يمكن للتحكيم أن يحل محلها.
بناءً عليه، يمكن القول إن النزاعات العقارية التي تدور حول حقوق يجوز للأطراف التصالح بشأنها والتنازل عنها، لا تعتبر من مسائل النظام العام التي تمنع التحكيم.
5. النظام العام في مجلة الأحكام العدلية:
على الرغم من أن مجلة الأحكام العدلية (التي لا تزال سارية في الضفة الغربية في بعض الجوانب خاصة في المعاملات المالية والعقود التي لم تنظمها قوانين أخرى صراحة) لا تتضمن نصًا صريحًا يُعرّف النظام العام بالمصطلح الحديث، إلا أن مبادئها وأحكامها تعكس هذا المفهوم بشكل ضمني. كانت المجلة، المستمدة من الفقه الإسلامي الحنفي، تضع قيودًا على حرية التعاقد والتصرفات بما ينسجم مع الشريعة الإسلامية والمصلحة العامة، وهو ما يمثل جوهر النظام العام.
قواعد الفقه الإسلامي: تتضمن المجلة قواعد مثل "لا ضرر ولا ضرار" و"درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، والتي تعتبر من المبادئ العامة التي تحمي المجتمع من الأضرار وتضع قيودًا على الأفراد لمنع إلحاق الضرر بالآخرين أو بالمجتمع. هذه المبادئ هي أساس للنظام العام الاجتماعي والأخلاقي.
عقود غير مشروعة: كانت المجلة تبطل العقود التي تتضمن غشًا أو تدليسًا أو كانت محلها حرامًا، وهو ما يتوافق مع فكرة أن التصرفات المخالفة للشرع والأخلاق هي تصرفات مخالفة للنظام العام.
بذلك، يمكن القول إن مجلة الأحكام العدلية قد أرست قواعد ضمنية لحماية النظام العام من خلال مبادئها التي تهدف إلى تحقيق العدل والمصلحة والوقوف في وجه الفساد والضرر.
6. النظام العام في القانون الأساسي الفلسطيني:
يُعتبر القانون الأساسي الفلسطيني (بمثابة دستور مؤقت) المصدر الأسمى للقانون في الضفة الغربية، وهو الذي يحدد المبادئ العليا للنظام العام السياسي والاجتماعي.
حماية الحقوق والحريات: ينص القانون الأساسي على العديد من الحقوق والحريات الأساسية للأفراد، مثل حق العمل، حق التعليم، حق الرعاية الصحية، وحرية التعبير. هذه الحقوق ليست مطلقة، بل تخضع لقيود تفرضها ضرورة حماية النظام العام والآداب العامة. فمثلاً، تنص المادة (27) من القانون الأساسي على حرية الرأي والتعبير، ولكنها تقيدها بأن لا تتعارض مع النظام العام والآداب العامة.
نظام الحكم: يحدد القانون الأساسي شكل نظام الحكم (ديمقراطي برلماني)، وتوزيع السلطات، والمبادئ الأساسية للدولة. هذه القواعد المتعلقة بسيادة الدولة واستقرارها هي من صميم النظام العام السياسي الذي لا يجوز المساس به أو الخروج عليه.
المادة (108) من القانون الأساسي: تنص على أن "أحكام هذا القانون الأساسي تسمو على أية أحكام أخرى وتعد لاغية كل أحكام تتعارض معها". هذا التأكيد على سمو القانون الأساسي يعني أن المبادئ التي يكرسها، والتي تشكل جوهر النظام العام السياسي والاجتماعي، لا يمكن لأي تشريع أدنى أو اتفاق خاص أن يخالفها.
الخلاصة:
يتضح أن مفهوم النظام العام في الضفة الغربية هو مفهوم ديناميكي ومتعدد الأوجه، يتجلى في مختلف فروع القانون. فهو يمثل صمام الأمان الذي يحمي القيم والمصالح العليا للمجتمع والدولة. فمن جانب، يُبرزه قانون التحكيم ولائحته التنفيذية كقيد على حرية الأفراد في اللجوء إلى التحكيم في المسائل السيادية والجنائية ومعظم مسائل الأحوال الشخصية، بينما يؤكد على جواز التحكيم في القضايا العقارية ذات الطبيعة المالية والتعاقدية. ومن جانب آخر، تُقدم مجلة الأحكام العدلية مبادئ ضمنية لحماية المصلحة العامة والابتعاد عن الضرر. والأهم من ذلك، يرسخ القانون الأساسي الفلسطيني المبادئ الدستورية التي تشكل الإطار العام للنظام العام السياسي والاجتماعي، ويضمن سمو هذه المبادئ على كافة التشريعات والتصرفات. إن هذا التفاعل بين هذه المصادر القانونية المختلفة يساهم في تشكيل فهم شامل ودقيق لمفهوم النظام العام، ويضمن استقرار المجتمع وحماية حقوق أفراده في سياق الضفة الغربية.