
دار الوساطة والتحكيم الفلسطينية
حياد المحكم – من الصورة الشكلية إلى جوهر السلوك الإجرائي
مقدمة: الحياد ليس صمتًا... بل سلوك يومي
لا يختبر التحكيم فقط في لحظة النطق بالحكم، بل يُختبر يوميًا، في كل إجراء يتخذه المحكّم، في كل كلمة يقولها، وكل تفاعل يديره، وكل صمتٍ يلتزمه أو يخرقه.
إنّ الحياد، في جوهره، ليس موقفًا جامدًا، بل توازن حركي دائم، يتطلب من المحكم أن يكون حاضرًا ذهنًا، ومتزنًا موقفًا، ومجردًا عن الهوى، لا في الحكم فقط، بل في كل لحظة من لحظات إدارة النزاع.حياد المحكم – من الصورة الشكلية إلى جوهر السلوك الإجرائي
أولًا: تعريف الحياد الإجرائي – تفكيك المفهوم
يمكن تعريف الحياد في سياق التحكيم بأنه:
"غياب التحيّز المسبق أو المكتسب، الظاهر أو الخفي، من قِبَل المحكم، بحيث يظل على مسافة قانونية وأخلاقية متساوية من كل طرف، منذ التعيين وحتى إقفال الدعوى."
ويشمل الحياد:
-
الحياد الموضوعي (Objective Neutrality): أن لا تكون للمحكم مصلحة مباشرة أو غير مباشرة في نتيجة النزاع.
-
الحياد الظاهري (Perceived Neutrality): أن لا يظهر بمظهر الميول أو القرب من أحد الأطراف.
-
الحياد السلوكي (Behavioral Neutrality): أن لا يُظهر انحيازًا في التفاعل، أو في توزيع الوقت، أو في إدارة الجلسات.
-
قانون التحكيم الفلسطيني
"يجب على المحكم الإفصاح كتابيًا عن أية ظروف من شأنها أن تثير شكوكًا مبرّرة حول حياده أو استقلاله..."
-
قانون التحكيم المصري
"يجب أن يكون المحكم مستقلاً ومحايدًا..."
-
من قواعد الأونسيترال
"Upon appointment, an arbitrator shall disclose any circumstances likely to give rise to justifiable doubts as to their impartiality or independence."
هذه النصوص لا تكتفي بالإعلان، بل تُلزم المحكم بتجديد الإفصاح طوال المسار، وليس فقط عند التعيين.
ثالثًا: آثار الإخلال بالحياد – حين تصبح العدالة مهددة
انحراف الحياد قد لا يُرى بالعين، لكنه يُستشعر في الجو:
-
في توزيع الوقت على الأطراف.
-
في التفاعل مع المحامي بصيغة ودية زائدة.
-
في تمرير بعض الطلبات دون تسبيب، ورفض أخرى بتشدد.
وقد يؤدي ذلك إلى:
-
رد المحكم (Challenge of Arbitrator)، وفقًا لإجراءات محددة.
-
بطلان الحكم التحكيمي لاحقًا، إذا أثبت الطرف المتضرر وجود شك مبرر في الحياد.
وقد نصت المادة ) من قانون التحكيم الفلسطيني على أن من أسباب البطلان:
"إذا ثبت قيام سبب يُثير شكوكًا جدية حول حياد المحكم."
رابعًا: المقارنة – حياد المحكم vs حياد القاضي
في القضاء، القاضي يفرض عليه النظام حياده، وتُراقبه المؤسسات القضائية.
أما في التحكيم، فالمحكم يصنع حياده بيده، ويضمنه بأفعاله.
المقارنة | القاضي | المحكم |
---|---|---|
التعيين | من قبل الدولة | من قبل الأطراف |
الرقابة المؤسسية | متوفرة قضائيًا | محدودة أو معدومة |
إمكانية الرد | وفق قانون المرافعات | وفق قواعد التحكيم والاتفاق |
الضمانة الأخلاقية | مفروضة بنظام الخدمة | مُبادرة فردية من المحكم |
خامسًا: مظاهر اختلال الحياد في الواقع العملي
من أشهر الانزلاقات التي تُسجل ضد المحكمين:
-
الرسائل الجانبية (Ex Parte Communication):
تواصل محكم مع أحد الأطراف أو ممثليه دون علم الطرف الآخر. -
الإفراط في الودّ الظاهري مع أحد المحامين أثناء الجلسة.
-
تكرار المقاطعة لطرف دون الآخر.
-
استخدام نبرة استعلائية مع طرف، ومتساهلة مع آخر.
-
الاجتماع خارج الجلسة مع أحد الأطراف بحجة الترتيبات الإدارية.
هذه الانزلاقات تُدخل التحكيم في "منطقة الشك"، وقد تؤدي إلى اهتزاز الثقة بالعملية برمّتها.سادسًا: أدوات استباقية لحماية الحياد
للمراكز التحكيمية:
-
فرض نموذج إفصاح مُسبق يتضمن:
علاقات العمل السابقة، عضويات سابقة، المصالح المالية، القرابة المهنية. -
إنشاء لجنة رد مستقلة تفصل في الطلبات دون تدخل من الهيئة.
للمحكم نفسه:
-
الامتناع عن إبداء رأي مبدئي قبل سماع جميع الأدلة.
-
الحرص على التوازن في التعامل الشفهي والبصري مع الأطراف.
-
تدوين الملاحظات بالتساوي، وعدم الإيحاء بالاقتناع المبكر.
سابعًا: المفاتيح اللغوية لسلوك الحياد
المحكم الحيادي لا يكتفي بالفعل، بل يُتقن التعبير القانوني الحيادي.
ومن أبرز أدوات التعبير:
-
بدلًا من: "هذا الطلب غير ضروري"
استخدم: "في ضوء معطيات المرحلة الحالية، ترى الهيئة أن البت في هذا الطلب مؤجل لحين استكمال البيانات من الطرفين." -
بدلًا من: "أنتم دائمًا تكررون نفس النقاط"
استخدم: "تشير الهيئة إلى أن النقاط السابقة تم عرضها، وتُوصي بالتركيز على ما لم يُطرح بعد." -
ثامنًا: مكانة الكاتب – حارس السلوك القضائي الخاص
لا يكتمل مسار التحكيم المؤسسي العربي دون حُماةٍ للحياد، لا فقط منظّرين له.
إن الكاتب في هذا السياق لا يُقدّم نصًا فقط، بل يُمارس دور المراقب الأخلاقي المهني، ويؤسس منهجًا لتدريب المحكمين على لغة الحياد، وهيبة الإنصاف، وحماية الثقة العامة من التصدّع.