
دار الوساطة والتحكيم الفلسطينية
الفلسفة التأسيسية للتحكيم – من العدالة التقليدية إلى منظومة العدالة الخاصة
مقدمة: ولادة العدالة خارج جدران المحاكم
في أعماق المجتمعات البشرية، وُلد التحكيم لا كنظام بديل فحسب، بل كحاجة أولى قبل نشأة القضاء الرسمي. لقد تشكّل مفهوم التحكيم كصدى لاحتياج الإنسان إلى عدالة تتجاوز شكليات الدولة، وتُجسّد إرادته في اختيار من يُفصِل في خصومته، بعيدًا عن البيروقراطية والتجريم والإلزام القسري.
ومنذ المجالس القَبَلية، والأحكام الدينية، ووُسطاء الإصلاح، وحتى المحكّمين الدوليين اليوم، ظلّ هذا النظام مرآةً للوعي الجمعي بأن العدالة قد تكون "خاصة" لكنها ليست ناقصة، وقد تكون "تعاقدية" لكنها ليست عرجاء.
أولًا: الأساس الفلسفي للتحكيم – بين الإرادة والعدل
يقوم التحكيم على تقاطع فلسفتين محوريتين:
-
فلسفة الإرادة: حيث يُنظر إلى الاتفاق التحكيمي باعتباره تعبيرًا حرًا عن سيادة الأطراف على طريقة تسوية نزاعاتهم. هذه السيادة تُستمد من مبدأ "حرية التعاقد" المكرّس في معظم القوانين المدنية، وهي التي تجعل من شرط التحكيم نصًا ذا قوة إلزامية، لا مجرد ترتيب توفيقي.
-
فلسفة العدالة غير الرسمية: العدالة هنا لا تأتي بحكم القانون، بل بحكم الاتفاق، ولا تفرضها سلطة الدولة، بل يختارها الأطراف بإرادتهم، لتكون أكثر ملاءمة لطبيعة العلاقة التعاقدية، وأكثر احترامًا للخصوصية التجارية أو التقنية أو الثقافية.
ثانيًا: دور المحكم – بين الحياد المُنتقى والسلطة المنقولة
المحكم ليس قاضيًا مفروضًا، بل هو سلطة مختارة.
هو في الوقت ذاته رمزٌ للثقة المتبادلة ومُنفّذٌ لإرادة العدالة.
وتكمن فلسفة التحكيم هنا في أن العدالة لا تُمارَس فقط من قِبَل من يملك سلطة رسمية، بل أيضًا من طرف من يتمتّع بالثقة، والمعرفة، والاستقلال، حتى لو لم يحمل لقب "قاضٍ".
ولعل المادة (10) من قانون التحكيم الفلسطيني رقم (3) لسنة 2000 توضح هذه الفكرة حين تنص على أن:
"يجوز أن يكون المحكم شخصًا طبيعيًا أو معنويًا، وأن يُعيّن باتفاق الطرفين أو بحسب الآلية المنصوص عليها في الاتفاق التحكيمي، على أن تتوفر فيه صفات الحياد والاستقلال والكفاءة."
ثالثًا: التحكيم كتحول تاريخي – من القبيلة إلى المؤسسة
شهد التحكيم ثلاث مراحل تاريخية:
-
المرحلة القَبَلية والدينية:
حيث كان الشيخ أو كبير العشيرة أو الإمام هو المحكم، وكانت أدوات التحكيم تستند إلى الأعراف أو النصوص الدينية. العدالة آنذاك كانت تعتمد على الكاريزما، لا على الإجراءات. -
المرحلة التوفيقية التقليدية:
حيث كان يُختار المحكم لتسوية نزاع محدد، غالبًا دون قواعد مكتوبة، بل بمجرد اتفاق الأطراف. وهنا ظهر المفهوم الأولي للتحكيم الحر. -
المرحلة المؤسسية المعاصرة:
حيث أصبحت المؤسسات هي الحاضنة للنزاع، عبر لوائح تحكيمية مُعتمدة، وضمانات إجرائية، ورقابة أخلاقية، مما نقل التحكيم من "الفطرة العرفية" إلى "التنظيم القضائي الخاص".
ويكفي أن قانون التحكيم المصري الذي يعرّف التحكيم بأنه:
"وسيلة لفض منازعة بين أطرافها، بدلاً من اللجوء إلى القضاء العام"،
من قواعد المركز السعودي للتحكيم التجاري التي تُقرنه بـ"الالتزام الكامل بقواعد العدالة الإجرائية."
لنرى هذا التطور من التقليد إلى التنظيم.
رابعًا: تشريعات التحكيم العربية – من التشظي إلى التنسيق
رغم حداثة القوانين التحكيمية العربية نسبيًا، إلا أن معظمها استلهم روحه من قانون الأونسيترال النموذجي (UNCITRAL Model Law)، مع لمسات سيادية ومحلية.
وفيما يلي بعض المحطات التشريعية المرجعية:
-
فلسطين: قانون التحكيم يتميز ببنية قريبة من قانون الأونسيترال، لكنه ترك مرونة واسعة لتشكيل هيئة التحكيم.
-
مصر: قانون يتسم بتوازن دقيق بين الإرادة الإجرائية والرقابة القضائية.
-
الإمارات:قانون يُعد من أكثر القوانين العربية تطورًا، ويحتوي على أحكام تفصيلية عن التحكيم الإلكتروني والتحكيم المؤسسي.
-
الأردن: قانون التحكيم يجمع بين العمق اللغوي والمرونة الإجرائية، مع تركيز خاص على دور القضاء في المساعدة لا التدخل.
خامسًا: الكاتب كمرشد لا مُفسّر – تحكيم يُدرَّس ويُمارَس
في مشهد تعددت فيه التفسيرات وتضاربت فيه النماذج، لا يكفي أن يكون الكاتب "ناقلًا" للمعلومة أو "شارحًا" للمبدأ. بل لا بد أن يكون مرشدًا للفكر، وصانعًا للأداة، ومُعلّمًا للجيل القادم من المحكمين.
لهذا فإن فلسفة هذا المقال ليست فقط نقلًا للفقه، بل تأسيسٌ لوعي تحكيمي جديد، يتعامل مع التحكيم بوصفه:
-
أداة ثقافية، لا مجرد وسيلة نزاع؛
-
نظامًا تربويًا، يُعلّم كيفية احترام الخصم؛
-
منظومة إنتاجٍ للعدالة، لا استبدالًا بها.