
دار الوساطة والتحكيم الفلسطينية
تحليل قانوني أكاديمي حول موقف المحكمة العليا الهندية من صياغة بنود التحكيم – قراءة مقارنة
أولاً: الإطار العام للحكم وأبعاده القانونية
أثار حكم المحكمة العليا الهندية في الطعن المتعلق بعقود الامتياز المبرمة بين بلدية دلهي ومقاولين من القطاع الخاص مسألة بالغة الأهمية تتعلق بصياغة بنود التحكيم في العقود التجارية. وقد شكل هذا الحكم محطة فارقة، إذ اتخذ موقفًا صارمًا تجاه الصياغات الرديئة التي تزرع الغموض عمدًا في الاتفاقات بهدف التحايل أو عرقلة الوصول إلى تسوية حقيقية للنزاعات.
أبرزت المحكمة جملة من المبادئ التأسيسية:
-
ضرورة رفض البنود الصياغية الرديئة منذ العتبة الأولى.
-
الدعوة إلى تحميل المستشارين القانونيين المسؤولية عن الممارسات الخادعة.
-
إمكانية تفعيل العقوبات التأديبية مستقبلاً لضمان الحوكمة والنزاهة.
ثانيًا: الركائز القانونية التي استند إليها الحكم الهندي
-
قدسية إرادة الأطراف في اختيار وسيلة التحكيم لا تعني السماح بتعطيل العدالة.
-
التحكيم وسيلة بديلة لا وسيلة مراوغة، ومن ثم فإن أي استغلال لهذا النظام يُعد إساءة إجرائية توجب الردع القضائي.
-
الوظيفة التفسيرية للقضاء تمتد إلى رفض البنود ذات الطابع التحايلي ولو في مرحلة القبول الأولى.
ثالثًا: قراءة مقارنة من منظور القانون الفلسطيني
1. القانون الفلسطيني لا يُجيز الغموض في شرط التحكيم
وفقًا لقانون التحكيم الفلسطيني لسنة 2000، فإن شرط التحكيم يجب أن يكون:
-
محددًا وواضحًا في دلالة الأطراف على اختيارهم التحكيم وسيلة لحل النزاع
-
مكتوبًا كتابة صريحة توضح حدود النزاع وهيئة التحكيم وإجراءاتها.
-
غير مخالف للنظام العام أو قواعد العدالة الأساسية.
ومن ثم، فإن أي بند تحكيمي غامض يُهدد ببطلان الاتفاق التحكيمي، وقد ترفضه المحاكم الفلسطينية استنادًا إلى القانون المذكور.
2. موقف القضاء الفلسطيني من الصياغة الرديئة
رغم ندرة السوابق المنشورة، فإن الاجتهاد القضائي الفلسطيني غالبًا ما يُخضع شروط التحكيم للتفسير الضيق، حمايةً لمبدأ التقاضي وضمانًا لإرادة الأطراف. فالغموض في الشرط يُؤول لمصلحة الولاية العامة للمحاكم النظامية، لا لصالح إقصائها.
3. التحكيم في مجلة الأحكام العدلية
وفق قاعدة "الشرط المبهم كالمعدوم". وهذه القاعدة تؤسس لبطلان كل شرط لا تتوافر فيه الضوابط القطعية الوضوح والبيان. وهو ما يُطابق توجّه المحكمة الهندية بضرورة "الوضوح القاطع والدقيق" في البنود التحكيمية.
رابعًا: مقارنة مع القانون الأردني والمصري
-
القانون الأردني (قانون التحكيم لسنة 2001) يشترط أن يكون شرط التحكيم واضحًا ومحددًا ومكتوبًا، وقد صدرت اجتهادات لمحكمة التمييز الأردنية برفض الشروط التحكيمية التي يشوبها الغموض أو التناقض.
-
القانون المصري (القانون لسنة 1994) يعتمد هو الآخر على اشتراط "الكتابة الصريحة والوضوح" في شرط التحكيم كما يتجه القضاء المصري نحو تفسير بنود التحكيم تفسيرًا ضيقًا عند الشك، وقد قضت محكمة النقض المصرية ببطلان شروط تحكيم صيغت بطريقة فضفاضة.
خامسًا: دروس مستفادة للتشريعات والممارسات الفلسطينية
-
وجوب تبنّي معيار "الإرادة المعلنة الصريحة" عند صياغة شرط التحكيم.
-
تضمين نموذج إجرائي موحد لصياغة بنود التحكيم في عقود المقاولات والتجارة.
-
تحميل المسؤولية التأديبية للمحامين والمستشارين الذين يدرجون بنودًا مُضلِّلة أو تحايلية.
-
تشجيع المحاكم الفلسطينية على التوسع في رقابة "القبول الأولي" للشرط التحكيمي، على نحو ما فعلته المحكمة العليا الهندية.
سادسًا: مقترحات تشريعية فلسطينية بناءً على الحكم الهندي
-
نص تشريعي صريح يُجيز للمحاكم الفلسطينية رفض شرط التحكيم إذا ثبت أنه صيغ بطريقة تحايلية أو غير واضحة.
-
إدراج بند في قانون المحامين ينص على مساءلة مهنية للمحامي الذي يصوغ شرطًا تحكيميًا غامضًا أو غير قانوني.
-
إنشاء سجل وطني لبنود التحكيم النموذجية يكون مرجعًا للعقود التجارية والمقاولات.
يشكل الحكم الصادر عن المحكمة العليا في الهند تطورًا نوعيًا في تعزيز الحوكمة القانونية في التحكيم التجاري، وينطوي على دعوة صريحة لردع الاستغلال السيئ لنظام العدالة البديلة. وهو حكم ينسجم مع مبادئ العدالة الفلسطينية، ويستدعي استلهام نماذج مشابهة على الصعيد التشريعي والقضائي.