.png)
دار الوساطة والتحكيم الفلسطينية
صياغة الحكم التحكيمي – المعمار الفقهي واللغوي للعدالة الخاصة
مقدمة: بين العقل القانوني والقلم الصانع للشرعية
الحكم التحكيمي ليس خاتمة إجرائية، بل تتويج لمسارٍ من العدالة، يُختزل فيه كل ما جرى من دفوع وأدلة وتقدير.
هو النص الذي سيواجه الدولة عند التنفيذ، ويُواجه الخصم عند الاعتراض، ويُواجه التاريخ عند الرجوع.
فإذا لم يُصَغْ الحكم بلغة محكمة، ومنطق سليم، وتسبيب مقنع، انهدّ ما بُنِي قبله.
ولهذا، فإن صياغة الحكم ليست وظيفة إدارية، بل فنّ قضائي قائم بذاته، لا يُتقنه إلا من جمع بين الفقه، والتحليل، والكتابة القانونية الرصينة.
أولًا: تعريف الحكم التحكيمي – البناء والوظيفة
الحكم التحكيمي هو:
"القرار النهائي أو الجزئي الصادر عن هيئة التحكيم المختصة، في موضوع النزاع أو في جزء منه، بعد إتمام الإجراءات، ويُعد ملزمًا للطرفين وقابلاً للتنفيذ وفق القوانين الوطنية والدولية."
وظائف الحكم:
-
الفصل في النزاع
-
تحديد الحقوق والالتزامات
-
إنهاء الخصومة التحكيمية
-
تهيئة الحكم للتنفيذ القضائي
-
ثانيًا: عناصر الحكم التحكيمي وفق النموذج العلمي
الترويسة الرسمية:
-
-
اسم الهيئة التحكيمية
-
رقم القضية
-
تاريخ إصدار الحكم
-
اللغة المعتمدة
-
أسماء الأطراف وممثليهم
-
-
التمهيد الإجرائي:
-
بيان تعيين الهيئة
-
نطاق الاختصاص
-
ملخص الإجراءات
-
إثبات التبليغات والتفاعل
-
-
الوقائع والمطالبات:
-
عرض متوازن لمواقف الطرفين
-
سرد الحقائق دون تحيّز
-
إبراز النقاط المتفق عليها والمختلف حولها
-
-
التسبيب والتحليل:
-
تكييف قانوني لكل طلب
-
ربط بين الوقائع والنصوص
-
تفسير أي مسألة غامضة أو محل اجتهاد
-
-
المنطوق النهائي:
-
الفصل في كل طلب على حدة
-
تقرير الرسوم والمصاريف
-
تحديد آلية التنفيذ
-
بيان حجية الحكم وعدم قابليته للطعن (إن وُجد)
-
-
الخاتمة والتوقيعات:
-
أسماء المحكمين
-
توقيعهم الكامل
-
مكان وتاريخ التوقيع
-
الإشارة إلى صدور الحكم بالإجماع أو بالأغلبية
-
ثالثًا: النصوص القانونية المنظمة لصياغة الحكم
-
-
قانون التحكيم الفلسطيني لسنة 2000:
"يجب أن يكون الحكم التحكيمي مكتوبًا، ومُسببًا، ويوقع عليه المحكم أو جميع المحكمين."قانون التحكيم المصري لسنة 1994:
-
"يجب أن يشتمل الحكم على وقائع النزاع، وأسباب الحكم، وتاريخ ومكان صدوره."
-
قواعد محكمة لندن للتحكيم الدولي LCIA Rules 2020:
"The award shall be reasoned, unless the parties have agreed otherwise."
-
قواعد ICSID (التحكيم الاستثماري الدولي):
تُحدّد عناصر الحكم التحكيمي القابل للتنفيذ دوليًا من حيث الشكل والمحتوى. -
رابعًا: اللغة القضائية للحكم – بين البلاغة والاحتراز
يُقاس الحكم التحكيمي بجودة لغته كما يُقاس بمنطقه القانوني.
فالكلمة هنا ليست وصفًا، بل قوة تنفيذ.
أمثلة على اللغة المحكمة:
-
"وحيث إن الهيئة قد اطّلعت على المستند رقم (5) المقدم من الطرف الثاني، وثبت لها..."
-
"ولما كان الطلب يتعارض مع نص المادة (15) من العقد، فإن الهيئة تقرر رفضه."
-
"تُحمَّل المصاريف على الطرف الخاسر وفقًا لما تقرره المادة (45) من النظام المعتمد."
وتُمنع الصيغ التالية:
-
"ترى الهيئة أن هذا الطلب ضعيف"
-
"بدا لنا أن الطرف الأول صادق"
-
"نشعر بأن المدعى عليه قد تحايل"
خامسًا: الأخطاء الشائعة – متى يُبطل الحكم بسبب الصياغة؟
-
عدم توقيع أحد المحكمين: يُفقد الحكم شرعيته.
-
غياب التسبيب: يُفتح الباب للبطلان القضائي.
-
التناقض في المنطوق: مثال: الحكم بالتعويض ثم نفي المسؤولية.
-
إهمال طلب محوري دون رد: إخلال بحق الدفاع.
-
الاستخدام المفرط للعبارات الإنشائية دون تكييف قانوني.
وقد أبطلت محكمة الاستئناف في باريس عام 2018 حكمًا تحكيميًا دوليًا لأن الهيئة "لم تُعالج إحدى الطلبات الجوهرية المقدمة من الطرف الثاني"، رغم صدور الحكم بالإجماع.
سادسًا: أنواع الأحكام التحكيمية – تصنيف تحليلي
النوع | التعريف | القيمة التنفيذية |
---|---|---|
الحكم النهائي | يفصل في كل النزاع | قابل للتنفيذ مباشرة |
الحكم الجزئي | يفصل في جزء من النزاع أو مسألة إجرائية | قابل للتنفيذ بشرط الفصل الكامل لاحقًا |
الحكم التحكيمي بالصلح | يُثبت اتفاق الأطراف بمباركة الهيئة | يُعد حكمًا ملزمًا كأي حكم موضوعي |
سابعًا: المصطلحات الإنشائية القضائية الرفيعة
وحيث أن…
-
تأسيسًا على ما تقدم…
-
إن الهيئة ترى…
-
لما كان ذلك، وكان…
-
بناءً عليه… تُقرر الهيئة ما يلي…
ثامنًا: الكاتب كصائغٍ للشرعية وفاعلٍ في تنفيذ العدالة
إن الحكم التحكيمي هو مرآة التحكيم ذاته.
فالكاتب هنا لا يُقدّم وصفًا فنيًا، بل يرسم معمارًا فقهيًا ينقل الخصومة من الظن إلى اليقين، ومن الإجراء إلى الأثر، ومن التفاوض إلى الإنفاذ.
هو لا يكتب قرارًا، بل يُطلق قوة قانونية.