
دار الوساطة والتحكيم الفلسطينية
: موقف محكمة النقض الفرنسية من الاختيار الأحادي لقواعد التحكيم وتفسير شرط التحكيم الغامض – تعزيز لمبدأ فعالية التحكيم
أولًا: تمهيد إجرائي
تناول الحكم الصادر عن محكمة النقض الفرنسية (الغرفة المدنية الأولى) بتاريخ 6 نوفمبر 2024 في الملف رقم 22-16.580 النزاع القائم بين شركة "Devas Multimedia Private Limited" الهندية وشركة "Antrix Corporation Limited"، بشأن تنفيذ حكم تحكيمي صدر عن غرفة التجارة الدولية (CCI). وقد تضمّن العقد محل النزاع شرطًا تحكيميًا متعدد الخيارات يتيح تطبيق قواعد CCI أو قواعد لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (CNUDCI)، دون تحديد حصري لطبيعة التحكيم المؤسسي أو التحكيم الحر.
قُدمت ثلاثة طعون أمام محكمة النقض من أطراف مختلفة، وقررت المحكمة ضمها لموضوعية النزاع ووحدة أطرافه، وفصلت فيها بقرار موحد.
ثانيًا: المسألة القانونية المثارة
تتمحور الإشكاليات القانونية في هذا الحكم حول:
-
مدى قانونية اختيار أحد أطراف العقد لقواعد التحكيم المؤسسي (CCI) بصورة منفردة دون اتفاق لاحق صريح.
-
مدى أهلية المصفّي القضائي المعين بموجب قرارات قضائية أجنبية للتقاضي أمام المحاكم الفرنسية دون إكساء تلك القرارات بالصيغة التنفيذية.
ثالثًا: موقف المحكمة من صلاحية المصفّي الأجنبي للتقاضي
رفضت المحكمة قبول تدخل المصفّي المعيّن من القضاء الهندي، مستندة إلى أن قرارات التصفية لم تُمنح الصيغة التنفيذية في فرنسا (exequatur)، وبالتالي لا يترتب عليها أثر قانوني في نزع أهلية التمثيل عن إدارة الشركة أمام القضاء الفرنسي. وأكدت المحكمة أنه ما لم يتم تقديم طلب رسمي لمنح الصيغة التنفيذية لتلك الأحكام، تبقى صلاحية التمثيل القانوني بيد الإدارة القائمة.
رابعًا: تفسير شرط التحكيم والاختيار الأحادي لقواعد التحكيم
رغم احتجاج شركة Antrix بأن التحكيم يجب أن يتم وفق نظام ad hoc وأنه لا يجوز تفعيل نظام تحكيم مؤسسي دون اتفاق لاحق، أيدت محكمة النقض ما ذهبت إليه محكمة الاستئناف، بأن صيغة الشرط التحكيمي – رغم غموضها – تجيز للطرف الذي يبادر إلى التحكيم أن يختار أحد النظامين (CCI أو CNUDCI) ما دامت الإرادة المشتركة للطرفين قد وافقت عليهما في العقد الأصلي.
واعتبرت المحكمة أن هذه القراءة تُحقق غاية شرط التحكيم، وهي تمكين الأطراف من تسوية نزاعاتهم بفعالية دون تعطيل، ولا تُعد تحريفًا لنص العقد بل تأويلاً مشروعًا في ظل غموض الصياغة.
خامسًا: الآثار المترتبة على الحكم
-
تعزيز مبدأ "الفعالية القصوى للتحكيم" واعتبار أن الغاية من الشرط التحكيمي مقدّمة على القيود الشكلية في حال غموض النص.
-
تكريس صحة الاختيار الأحادي لقواعد التحكيم عندما تكون الخيارات مذكورة بالعقد وكان الطرف الآخر قد قبلها مبدئيًا.
-
تأكيد ضرورة الحصول على الإكسكواتور لتنفيذ أو ترتيب أي أثر قانوني على الأحكام أو القرارات الأجنبية أمام المحاكم الفرنسية.
سادسًا: أهمية الحكم في البيئة التحكيمية الدولية
يمثل هذا الحكم دعمًا قضائيًا مهمًا لمسيرة التحكيم المؤسسي، ويعكس توجه القضاء الفرنسي – بوصفه مرجعية كبرى في التحكيم الدولي – نحو حماية العملية التحكيمية من محاولات التعطيل الشكلاني، ويُكرّس مرونة تفسير شروط التحكيم في العقود الدولية متى ثبتت النية المشتركة للأطراف.
كما يشير إلى التزام القضاء الفرنسي بقواعد القانون الدولي الخاص، لا سيّما مبدأ الإقليمية في تنفيذ الأحكام الأجنبية.