
دار الوساطة والتحكيم الفلسطينية
"غياب الإثبات وبطلان نطاق التحكيم: قراءة تحليلية في حكم استئناف إماراتي لعام 2025"
مقدمة:
يعكس الحكم الصادر في القضية رقم 4/2025/393 أمام محكمة الاستئناف بدولة الإمارات العربية المتحدة إشكاليتين مركزيتين في مجال التحكيم التجاري: الأولى تتعلق بفشل الطرف المطالب بالتعويض في إثبات الضرر، والثانية تتعلق بسوء فهم أو سوء صياغة شرط التحكيم مما أدى إلى تجاوز محتواه وحدوده القانونية.
يأتي هذا الحكم ليؤكد من جديد أن التحكيم ليس بديلاً مرنًا عن القضاء فحسب، بل هو ساحة قانونية صارمة لا تقبل المطالبات الانطباعية، ولا تتساهل مع الصياغات العامة التي لا تحسم النطاق بدقة.
أولًا: فشل الإثبات وسقوط الحق بالتعويض
طالب المدعي بتعويض مالي بلغ 46,740 درهمًا إماراتيًا، مستندًا إلى ادعاء بوقوع ضرر بسبب تأخر في تنفيذ الالتزامات التعاقدية من قبل الطرف الآخر. كما طالب بفوائد تأخيرية عن الفترة بين 15/8/2023 و15/9/2023، إلى جانب مبلغ رمزي لتغطية رسوم التحكيم.
لكن الهيئة التحكيمية – وبعد استعراض وقائع الدعوى – لاحظت غياب أي دليل ملموس أو مستند محاسبي يثبت أن المدعي قد تكبّد ضررًا فعليًا.
فلا وثائق تُظهر خسارة محققة، ولا بيانات تدعم وجود فرصة فوتها، ولا حتى إشعار رسمي بإنذار أو مطالبة قانونية في التوقيت المناسب.
وبناءً عليه، استقرّ اجتهاد الهيئة على قاعدة أساسية:
"لا تعويض بغير إثبات. ومتى غاب الدليل، سقط الادعاء."
وقد أكدت المحكمة الاستئنافية هذا المبدأ في مراجعتها، معتبرة أن الحكم التحكيمي استند إلى أسس قانونية ومنطقية صحيحة في هذا الجانب.
ثانيًا: بطلان جزئي بسبب تجاوز نطاق شرط التحكيم
أحد أبرز الجوانب القانونية التي أثارتها المحكمة يتمثل في أن بعض المطالبات التي طرحها المدعي لم تكن مشمولة أصلاً في شرط التحكيم الوارد في العقد.
فوفقًا قانون التحكيم الاتحادي لسنة 2018،
"إذا فصل الحكم في مسائل لم يشملها اتفاق التحكيم، فإنه يكون باطلاً في هذا الشق."
وقد أكدت المحكمة أن بند التحكيم، كما ورد في العقد، لم يكن كافيًا لتغطية المطالبات المتعلقة بالتعويض التأخيري أو المطالبات المالية غير المباشرة، وبالتالي فإن قبول الهيئة لمناقشة هذه المطالبات وتكييفها كجزء من النزاع المحال إلى التحكيم يُعد تجاوزًا قانونيًا يوجب الإبطال الجزئي للحكم.
هذا يبرز خطورة الصياغات العامة الفضفاضة لشرط التحكيم، وضرورة حصره بدقة في المسائل التي يُراد فعلاً إحالتها إلى التحكيم.
ثالثًا: واجب التحكيم في احترام حدود الاختصاص والطلب
رغم أن الهيئة التحكيمية استعرضت الطلبات المقدمة، فإن المحكمة وجدت أن الهيئة فصلت في طلبات لم تُعرض عليها بوضوح، ولم يكن هناك التزام تعاقدي بتحكيمها، أو لم يتم تقديمها بطريقة قانونية صريحة.
بل إن المحكمة ذهبت أبعد من ذلك، فأكدت أن الحكم شابَه "القصور في التسبيب"، لأن الأسباب المذكورة لم تكن كافية لتبرير القضاء برفض التعويض فحسب، بل تجاوزت إلى تأويل نية الأطراف دون بيّنة على إرادتهم المشتركة، وهو ما يُعد مخالفة جوهرية لقواعد التحكيم الموضوعية.
خلاصة وتحليل:
يمثل هذا الحكم نموذجًا دقيقًا لما يلي:
-
التحكيم لا يغني عن الإثبات: الادعاء بوقوع ضرر لا يُغني عن تقديم الدليل.
-
شرط التحكيم ليس صكًّا مفتوحًا: بل يجب تفسيره تفسيرًا دقيقًا وحرفيًا، وكل ما يخرج عنه يقع خارج ولاية المحكم.
-
التحكيم مؤسسة قانونية لا عاطفية: فهو لا يتسامح مع ضعف الطرح أو غموض الطلبات أو سوء التقديم.
توصيات عملية:
-
ضرورة توثيق الأضرار والاحتفاظ بكافة السجلات والمراسلات التعاقدية لتقوية الموقف القانوني في أي نزاع تحكيمي.
-
صياغة بند التحكيم بدقة بالغة، وتحديد نوع النزاعات المشمولة ونوع المطالبات الممكنة.
-
تفادي المطالبات المبالغ فيها أو غير الناضجة قانونيًا أمام هيئات التحكيم، لأنها قد ترتد سلبًا وتفقد المدعي مصداقيته.